الجمعة، 10 يوليو 2020

الصدمة والفوضى

مع التقدم العلمي في القرن 19 ظهر الكثير من الفيزيائيين اللامعين كالاسكتلندي جيمس ماكسويل والفرنسي سيمون لابلاس وكان يجمعهم مع سابقهم الانجليزي الشهير اسحاق نيوتن نظرية الحتمية التي تقول ان هذا العالم كالمحرك الميكانيكي بإمكانك التنبؤ بما سيحصل مستقبلا وإن حدث تغييرا طفيفا في البدايات فالنتيجة واحدة في كل مرة، فكما قالوا اننا بإمكاننا التنبؤ بالاحداث الفيزيائية كموقع الارض على مدارها بعد عشرات السنين وان حصلت بعض التغييرات الطفيفه على المدار، وكمثال اخر بإمكاننا معرفة رقم حجر النرد اذا تم رميه عدة مرات بنفس القوة والزاوية وان تغيرت درجة الحرارة قليلا. ولكن في عام 1890 جاء الفرنسي هنري بيونكير ليفند هذه النظرية بقوله ان تغييرا بمقدار 1/10 من الدرجة في مسار عاصفة ما لن يجعلك تتنبأ بموقع هبوطها النهائي وان الكثير من الامثلة في عالمنا تدعم ذلك . الا انه واجه معارضة شديدة حينها ولم يتبنى أحد هذا الرأي حتى عام 1961 حين أثبت الامريكي ادوارد لورنز وبمحض الصدفة أثناء قيامه باحدى تجاربه بما لا يقبل الشك ان أية تغيير طفيف في أي حدث لا يمكن معه التنبؤ بشكل نهايتة وكان لورنز قد ادخل رقما جديدا في حاسوبه البدائي يقل 1/10000 من الرقم الاصلي وهو فارق صغير جدا،فاختلفت عنده نبؤة  حالة الطقس من ممطر عاصف الى مشمس ، وكذلك فان حجر النرد لن يأتي بنفس النتيجة اذا ازدادت الرطوبة بشكل طفيف او مقاومة السطح الذي تلقى عليه، ومن هنا تأسست نظرية الفوضى التي تثبت انه في هذا العالم اذا تغيرت بعض المعطيات لحدث ما ولوبشكل قليل جدا فلا يمكن التنبؤ يقينا بالنتيجة النهائية. (ينبغي التنبيه ان الفوضى ليست العشوائية وانما لها نطاقها حيث يتم حساب نقطة بعد اخرى لمعرفة المسار النهائي) 

إستلهم علماء الاجتماع من نظرية الفوضى فكرة التغيير الطفيف الذي يأتي بنتائج كبيرة غير متوقعه وحاولوا تجربتها على الانسان، فأخضعوا الكثير للتجارب ولكن التغييرات الطفيفه لم تغير من التصرف الانساني بشكل  كبير كما توقعوا. فعادوا الى تجارب عالم النفس الكندي دونالد كاميرون والذي استخدم تجربته في الخمسينيات على العديد من مرضاه  والتي أطلق عليها نظرية الصدمة. ونظرا لاهمية تجاربه بعلم النفس وبما يفيد مناهج الاستخبارات فقد جاءه التمويل كاملا من وكالة الاستخبارات الامريكيه(صورة 1 من جريدة "ذا جازيت" مونتريال -الكندية).
                                                                     (صورة 1)


تقوم النظرية باختصار شديد على تغيير الانسان بشكل كلي أي السيطرة على افكاره وعواطفه وقناعاته والتي عادة تزرع في الانسان عن طريق ذاكرته من الماضي وادراكه للحاضر فكان يعرض مرضاه لتيار كهربائي شديد ويناولهم عقاقيرمهلوسه ويحجزهم في اماكن مظلمة وحالكة خلال صمت مطبق وكل هذا لتحويل ذاكرتهم الى صفحة بيضاء يكتب عليها ما بشاء من أفكار وقناعات وهذا بالضبط ما فعله الامريكان في الكثير من معتقلاتهم وخاصة غوانتانمو وأبو غريب رغم ان وكالة الاستخبارات الامريكية كانت قد دفعت تعويضا لاحدى ضحايا كاميرون قبل ذلك الوقت (صورة 2 نفس الجريدة والعدد)

                                                                           (صورة 2)


ولكن هذه الطريقة الشيطانية كان من الممكن تطبيقها على الافراد فقط، ولا يمكن تطبيقها على شعب بأسره، ولكي يتم ذلك كان لا بد اولا من التعرف على أكثر ما يقلق الانسان ، فتوصلوا الى ان الانسان يتأثركثيرا بحالته الاقتصادية وتوافر احتياجاته وأمنه  ومن هنا جاءت فكرتهم الشيطانية الثانيه وهي : ماذا لو استعملنا الصدمة الاقتصادية والامنية على الشعوب أولا ثم بعد ذلك طبقنا نظرية الفوضى لفترات طويلة، فهل سيستجيب البشر؟ وهل ستأتي النتائج كبيرة جدا غير متوقعه مقابل إحداث تغيرات طفيفة غير مكلفة في البداية؟؟؟؟؟

فجاء الدور هذه المرة من الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان استاذ جامعة شيكاغوصاحب فكرة السوق الحر او اقتصاد السوق والتي تنص على الا تتدخل الدولة مطلقا بأمور الاقتصاد حيث تقوم الشركات الكبرى بذلك ويدير السوق نفسه من خلال العرض والطلب، وتجدر الاشارة هنا بأن فريدمان كان استاذ دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي السابق . وتتلخص فكرته في توسيع نطاق الاقتصاد  الحرحيث تقوم الشركات الامريكيه بعرض خدماتها على دول بأسرها ومن ثم التحكم بالقطاع الاقتصادي الذي تساهم فيه حينها تستكمل عناصر الفوضى لاحداث تغييرات طفيفة واستقبال نتائج كبيرة بالمقابل . ولكن لعلمه المسبق بعدم قبول الشعوب ان يتحكم الاجنبي بمقدراتها كان لا بد من الصدمة اولا، وهنا جاء استخدام هذه الفكرة لاول مرة في تشيلي التي كانت منارة في امريكا الجنوبية ففي عام 1970 وصل الرئيس سلفادور ألندي للحكم عن طريق الانتخابات وكان من اهتماماته تأميم الشركات لتكون وطنية بحته حينها قدم فريدمان منح دراسية لمجموعة من الخريجين التشيليين ليدرسوا عنده في شيكاغو ليعودوا الى الجامعة الكاثوليكيه في سانتياغو ليشكلوا نواة فكر فريدمان في شيلي . في عام 1973 امر نيكسون ال سي اي اي بالتحرك فوضع فريدمان الخطة اولا بالطلب من الشركات الامريكيه هناك بوقف اعمالها وطرد الموظفين  وتحميل الرئيس التشيلي السبب بموجة البطاله فقامت المظاهرات واستغل الجيش بقيادة اوغستو بينوشيه وبمساعدة الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون الوضع واستطاعوا بالاطاحة وبشكل وحشي بسلطة الرئيس المنتخب سلفادور ألندي الذي قتل بالقصف الجوي لقوات بلده. تبع هذا الانقلاب سلسلة من الاعتقالات والاختطاف ففقد الشعب الحس الامني وتبعها غلاء فاحش في الاسعار وارتفاع مستوى البطاله مما اربك عقول التشيلين الذين بمجرد دخول الشركات الامريكيه لتقديم عروضها حتى تمت الموافقة الفورية من الحاكم والشعب ، وهكذا انتصرت الصدمة لتبدأ الفوضى التي حكم خلالها بينوشيه 17 عاما تم تمرير كل ما اراد الامريكان وبسهولة بالغة بينما استفاد ثلة من سكان تشيلي وقبع الشعب في الفقر والقمع.

من يعتقد ان الامريكان الان قد تخلصوا من هذا النهج فهو واهم، فالعراق كان اخر نجاح لهم وقصة العراق شبيهة بتشيلي، ولكن قد يسأل سائل لماذا لم يستخدم الامريكان هذا النهج بعد العراق؟؟ والجواب ان الشعوب باتت تمتص الصدمة المطلوبة لاحداث الفوضى وذلك بوعيها ووطنيتها وقراءة التاريخ قراءة متأنية  وبدأت هذه الشعوب بالتنبه للفتن والمؤامرات التي تحاك في واشنطن وتنفذ من جهات متعدده ، ومن يعتقد ان الامريكان استسلموا للواقع فهو واهم ايضا فلن تهدأ الادارات الامريكية المتعاقبة حتى تحقق الصدمة والفوضى المطلوبة لضمان مصالحها الامبريالية في السيطرة على كل الخيوط العالمية.

لذا قد نظن ان الكويت بعيدة عن كل هذا مستقبلا، ولكن ان حصل لا سمح الله فهل نحن مستعدون لامتصاص اية صدمة خارجية كانت ام داخلية؟